فصل: أمر زفر بن الحرث بقرقيسيا.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.أمر زفر بن الحرث بقرقيسيا.

قد ذكرنا في وقعة راهط مسير بن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه وأقام بها يدعو لابن الزبير ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص بالمسير إلى زفر فسار وعلى مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو ثلثمائة ثم أقبل أبان فواقع زفر وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال: كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسية فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل واشتد حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة وأمر ابنه الهذيل يوما أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع بعض أطنابه ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما وأن لهم ما أحبوا فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد هدم من المدينة أربعة أبراج فترك الصلح وزحف إليهم فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقر بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك خوفا من فعلته بعمر بن سعيد فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر وسار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعبا هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمنه عبد الملك كما مر.

.مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها.

قد تقدم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق وكف فرقتين منهم وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم بجير بن ورقاء الصريمي فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل كتابك فأكله وكان بكير بن وشاح التميمي خليفة بن حازم على مرو فكتب إليه عبد الملك بعهده على خراسان ورغبه بالمطامع إن انتهى فخلع ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو ويزيد ابنه يترمد فأتبعه بجير ولحقه قريبا من مرو واقتتلوا فقتل ابن حازم طعنه بجير وآخران معه فصرعوه وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الذي قتل ابن حازم وأقام في ولاية خراسان وقيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير وأن عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه.
كان عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمعي فهرب الحرث وأقام ابن أنيف شهرا يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحرث إلى المدينة وبعث ابن الزبير بن خالد الدورقي على خيبر وفدك ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحرث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى وبعث سرية إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام وذكر لعبد الملك ذلك فاغتم وقال قتلوا رجلا صالحا بغير ذنب ثم عزل ابن الزبير الحرث بن حاطب عن المدينة وولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار وليسد خللا إن ظهر له بالحجاز فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القباع وهو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة فبعثهم القباع وأمر ابن الزبير جابر ابن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل ولقيهم فهزمهم وقتل مقدمهم وقتل من أصحابه خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم ورجع إلى وادي القرى ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف وهو طلحة النداء وذلك سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق ولما قتل عبد الملك مصعبا ودخل الكوفة وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يتعرض للمدينة ونزل الطائف وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فيهزمون دائما وتعود خيل الحجاج بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وأخرج عنها طلحة النداء عامل ابن الزبير وولى مكانه رجلا من أهل الشام وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف ولما قدم الحجاج مكة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل ونادى منادي الحجاج عند الإفاضة انصرفوا فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير ورمى بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب الشام رجالا فذعروا فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة وإن الفتح قد حضر فأبشروا ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسرى عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمها في أصحابه ويبعت الدجاجة بعشرة دراهم والمد من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير ممملوأة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق يقوي بها نفوس أصحابه ثم أجهدهم ثم أجهدهم الحصار وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليهم منهم نحو عشرة آلاف وافترق الناس عنه وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه وحرض الناس الحجاج وقال: قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدموا واملؤا ما بين الحجون والأبواء فدخل ابن الزبير على أمه أسماء وقال يا أمه قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له: أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال: يا أمه أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني فقالت: يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك واستعن بالله فقبل رأسها وقال هذا رأيي والذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته ولكن أحببت أن أعلم فقد زدتيني بصيرة وإني يا أمه في يومي هذا مقتول فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى اللهم لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك ثم قالت: أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيرا قال: فلا تدعي الدعاء لي فدعت له وودعها وودعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبستها إلا لأشد منك فقالت: إنه لا يشد مني فنزعها وقالت له إلبس ثيابك مشمرة ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال: بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف فيجيبه من جانب المعترك ولما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدم ابن الزبير إليهم وكشفهم عنه ولرجع فصلى ركعتين عند المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام ويقال: إنه قال: لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبير أوطبتم لي نفسا عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله؟ فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا تسألوا عني ومن كان سائلا فإني في الرعيل الأول ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجه فأرغش لها ودمى وجهه ثم قاتل قتالا شديدا وقتل في جمادى الآخر سنة ثلاث وسبعين وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد وكبر أهل الشام وثار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك وصلب جثته منكسة على ثنية الحجون اليمنى وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلى بينها وبينه ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجاج إلى عبد الملك فرحب به وأجلسه على سريره وجرى ذكر عبد الله فقال عروة: إنه كان! فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل فخر ساجدا ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمه فقال: نعم وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمه وصلى عليه عروة ودفنه وماتت أمه بعده قريبا ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال: أنتم قتلة عثمان وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمة منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله.
وقيل إن ولاية الحجاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين وإن عبد الملك عزل عنها طارقا واستعمله ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.